فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} أي سارعوا إلى الطاعات؛ وهذا يدل على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها، وذلك لا اختلاف فيه في العبادات كلها إلا في الصلاة في أوّل الوقت؛ فإن أبا حنيفة يرى أن الأولى تأخيرها، وعموم الآية دليل عليه؛ قاله الكيا.
وفيه دليل على أن الصوم في السفر أولى من الفِطر، وقد تقدّم جميع هذا في «البقرة». اهـ.

.قال السمرقندي:

{إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من الدين والسنن يوم القيامة، فهذا وعيد وتهديد، لتستبقوا الخيرات، ولا تتّبعوا البدعة، ولا تخالفوا الكتاب. اهـ.

.قال ابن عطية:

وهذه الآية بارعة الفصاحة جمعت المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة، وكل كتاب الله كذلك، إلا أنا بقصور أفهامنا يبين في بعض لنا أكثر مما يبين في بعض. اهـ.

.قال في البحر المديد:

الإشارة: اعلم أن نبينا عليه الصلاة والسلام جمع الله له ما افترق في غيره، فذاته الشريفة جمعت المحاسن كلها ظاهرة وباطنة، وكتابُه جمع ما في الكتب كلها فهو شاهد عليها، وشريعته جمعت الشرائع كلها، ولذلك كان الولي المحمدي هو أعظم الأولياء.
واعلم أن الحق جل جلاله جعل لكل عصر تربية مخصوصة بحسب ما يناسب ذلك، العصر، كما جعل لكل أمة شرعة ومنهاجًا بحسب الحكمة، فمن سلك بالمريدين تربية واحدة، وأراد أن يسيرهم على تربية المتقدمين، فهو جاهل بسلوك الطريق، فلو كان السلوك على نمط واحد ما جدد الله الرسل بتجديد الأزمنة والأعصار، فكل نبي وولي يبعثه الله تعالى بخرق عوائد زمانه، وهي مختلفة جدَا، فتارة يغلب على الناس التحاسد والتباغض، فيبعث بإصلاح ذات البين والتآلف والتودد، وتارة يغلب حب الرياسة والجاه فيربى بالخمول وإسقاط المنزلة، وتارة يغلب حب الدنيا وجمعها فيربى بالزهد فيها والتجريد والانقطاع إلى الله. وهكذا فليقس ما لم يقل. والله تعالى أعلم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}.
قدَّم تعريفه صلى الله عليه وسلم قصص الأولين على تكليفه باتباع ما أنزل الله عليه لئلا يسلك سبيل من تقدَّمه فيستوجب ما استوجبوه.
قوله جلّ ذكره: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ في مَا آتَاكُمْ}.
لا تتملكك مودَّةُ قريبٍ أو حميمٍ، واعتنِقْ ملازمةَ أمرِ الله- تبارك وتعالى- بترك كل نصيبٍ لك.
ثم قال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} يعني طريقةً وسُنَّة؛ أي أفردنا كلَّ واحدٍ منكم- معاشِرَ الأنبياء- بطريقة، وأمَّا أنت فلا يدانيك في طريقتك أحد، وأنت المقدَّمُ على الكافة، والمُفَضَّلُ على الجملة، ولو شاء الله لَسَوَّى مراتَبَكم، ولكن غاير بينكم ابتلاء، وفَضَّلَ بعضكم على بعض امتحانًا.
قوله جلّ ذكره: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
مسارعة كل أحدٍ على ما يليق بوقته؛ فالعابدون تقدمهم من حيث الأوراد، والعارفون همتهم من حيث المواجد.
ويقال استباق الزاهدين برفض الدنيا، واستباق العابدين بقَطْعِ الهوى، واستباق العارفين بنفي المُنى، واستباق الموحدين بترك الورى، ونسيان الدنيا والعُقبى. اهـ.

.من فوائد الرازي في الآية:

الخطاب في قوله: {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} خطاب للأمم الثلاث: أمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد عليهم السلام، بدليل أن ذكر هؤلاء الثلاثة قد تقدم في قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44] ثم قال: {وَقَفَّيْنَا على ءاثارهم بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 46] ثم قال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب} [المائدة: 48]. اهـ.
قال بعضهم: الشرعة والمنهاج عبارتان عن معنى واحد، والتكرير للتأكيد والمراد بهما الدين.
وقال آخرون: بينهما فرق، فالشرعة عبارة عن مطلق الشريعة، والطريقة عبارة عن مكارم الشريعة، وهي المراد بالمنهاج، فالشريعة أول، والطريقة رخر.
وقال المبرد: الشريعة ابتداء الطريقة، والطريقة المنهاج المستمر، وهذا تقرير ما قلناه.
والله أعلم بأسرار كلامه. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه} لما ذكر تعالى أنه أنزل التوراة فيها هدى ونور، ولم يذكر من أنزلها عليه لاشتراك كلهم في أنها نزلت على موسى، فترك ذكره للمعرفة بذلك، ثم ذكر عيسى وأنه آتاه الإنجيل، فذكره ليقروا أنه من جملة الأنبياء، إذ اليهود تنكر نبوّته، وإذا أنكرته أنكرت كتابه، فنص تعالى عليه وعلى كتابه.
ثم ذكر إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الكتاب، ومن أنزله مقرّرًا لنبوّته وكتابه، لأن الطائفتين ينكرون نبوته وكتابه.
وجاء هنا ذكر المنزل إليه بكاف الخطاب، لأنه أنص على المقصود.
وكثيرًا ما جاء ذلك بلفظ الخطاب لأنه لا يلبس البتة وبالحق: ملتبسًا بالحق ومصاحبًا له لا يفارقه، لما كان متضمنًا حقائق الأمور، فكأنه نزل بها.
ويحتمل أن يتعلق بأنزلنا أي: أنزلناه بأن حق ذلك، لا أنه وجب على الله، لكنه حق في نفسه.
والألف واللام في الكتاب للعهد وهو القرآن بلا خلاف.
وانتصب مصدقًا على الحال لما بين يديه، أي: لما تقدمه من الكتاب.
الألف واللام فيه للجنس، لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة، ويحتمل أن تكون للعهد، لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على الإطلاق، وإنما أريد نوع معلوم منه، وهو ما أنزل السماء سوى القرآن.
والفرق بينهما أنه في الأوّل يحتاج إلى تقدير الصفة، وأنها حذفت، والتقدير: من الكتاب الإلهي.
وفي الثاني لا يحتاج إلى هذا التقدير، لأن العهد في الاسم يتضمن الاسم به جميع الصفات التي للاسم، فلا يحتاج إلى تقدير حذف.
ومهيمنًا عليه أي أمينًا عليه، قاله ابن عباس في رواية التيمي، وابن جبير، وعكرمة، وعطاء، والضحاك، والحسن.
وقال ابن جريج: القرآن أمين على ما قبله من الكتب، فما أخبر أهل الكتاب عن كتابهم فإن كان في القرآن فصدّقوا، وإلا فكذبوا.
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: شاهدًا.
وبه قال الحسن أيضًا وقتادة، والسدّي، ومقاتل، وقال ابن زيد: مصدّقًا على ما أخبر من الكتب، وهذا قريب من القول الأول.
وقال الخليل: المهيمن هو الرقيب الحافظ.
ومنه قوله:
إن الكتاب مهيمن لنبينا ** والحق يعرفه ذوو الألباب

وحكاه الزجاج، وبه فسر الزمخشري قال: ومهيمنًا رقيبًا على سائر الكتب، لأنه يشهد لها بالصحة والبيان انتهى.
وقال الشاعر:
مليك على عرش السماء مهيمن ** لعزته تعنو الوجوه وتسجد

فسر بالحافظ، وهذا في صفات الله.
وأما في القرآن فمعناه أنه حافظ للدّين والأحكام.
وقال الضحاك أيضًا: معناه قاضيًا.
وقال عكرمة أيضًا: معناه دالًا.
وقال ابن عطية: وقد ذكر أقوالًا أنه شاهد، وأنه مؤتمن، وأنه مصدّق، وأنه أمين، وأنه رقيب، قال: ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ، لأن المهيمن على الشيء هو المعنى بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحامله، فلا يدخل فيه ما ليس منه، والقرآن جعله الله مهيمنًا على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرّفون إليها، فيصحح الحقائق ويبطل التحريف.
وقرأ مجاهد وابن محيصن: ومهيمنًا بفتح الميم الثانية، جعله اسم مفعول أي مؤمن عليه، أي: حفظ من التبديل والتغيير.
والفاعل المحذوف هو الله أو الحافظ في كل بلد، لو حذف منه حرف أو حركة أو سكون لتنبه له وأنكر ذلك.
وردّ ففي قراءة اسم الفاعل الضمير في عليه عائد على الكتاب الثاني.
وفي قراءة اسم المفعول عائد على الكتاب الأول، وفي كلا الحالين هو حال من الكتاب الأول لأنه معطوف على مصدّقًا والمعطوف على الحال حال.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قراءته بالفتح وقال: معناه محمد مؤتمن على القرآن.
قال الطبري: فعلى هذا يكون مهيمنًا حالًا من الكاف في إليك.
وطعن في هذا القول لوجود الواو في ومهيمنًا، لأنها عطف على مصدّقًا، ومصدّقًا حال من الكتاب لا حال من الكاف، إذ لو كان حالًا منها لكان التركيب لما بين يديك بكاف الخطاب، وتأويله على أنه من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعيد عن نظم القرآن، وتقديره: وجعلناك يا محمد مهيمنًا عليه أبعد.
وأنكر ثعلب قول المبرد وابن قتيبة أنّ أصله مؤتمن.
{فاحكم بينهم بما أنزل الله} ظاهره أنه أمر أن يحكم بما أنزل الله، وتقدم قول من قال: إنها ناسخة لقوله: {أو أعرض عنهم} وقول الجمهور: إنْ اخترت أن تحكم بينهم بما أنزل الله، وهذا على قول من جعل الضمير في بينهم عائدًا على اليهود، ويكون على قول الجمهور أمر ندب، وإن كان الضمير للمتحاكمين عمومًا، فالخطاب للوجوب ولا نسخ.
{ولا تتبع أهواءهم} أي لا توافقهم في أغراضهم الفاسدة من التفريق في القصاص بين الشريف والوضيع، وغير ذلك من أهوائهم التي هي راجعة لغير الدين والشرع.
{عما جاءك من الحّق} الذي هو القرآن.
وضمن تتبع معنى تنحرف، أو تنصرف، فلذلك عدي بعن أي: لا تنحرف أو تتزحزح عما جاءك متبعًا أهواءهم، أو بسبب أهوائهم.